موجز
منتدى محاضِرات ومحاضري القانون من أجل الديمقراطيّة هو مجموعة غير مُمأسَسة من المُختصّين والمُختصّات في القانون الإسرائيليّ والقانون العامّ خصوصًا، ينشط أعضاؤه تطوّعًا وهم غير مُنتمين إلى أيّ جهة سياسيّة- حزبيّة. ينظر المنتدى بقلق كبير إلى النوايا البادية للسّعي إلى إلغاء استقلاليّة الجهاز القضائيّ، وإخضاعه للحكومة والاعتبارات السياسيّة الحزبيّة الخاصّة بالسّلطة التنفيذيّة، وللمسّ بالمكانة المستقلّة التي يتمتّع بها المستشارون القضائيّون للحكومة والمستشارون القضائيّون الوزاريّون. استمرارًا لورقة الموقف رقم 9 الصادرة عن المنتدى، سنواصل في هذه الورقة فحص مسألة وجود قيود على قوّة الكنيست وقدرتها على تغيير قوانين أساسيّة، وسنتركّز في مسألة موعد بدء سريان التغييرات النظاميّة المطروحة حاليًا. خلصت ورقة الموقف هذه إلى أنّ مقترحات تعديل قانون أساس: القضاء تُشكّل سوءَ استخدام لصلاحيّة تأسيسيّة، وذلك لوجود تضارب مصالح ساطع لدى الأغلبيّة الائتلافيّة. وعليه، وحتّى من دون الدخول في مسألة ما إذا كانت التعديلات المقترحة تمسّ بجوهر القيم التي تقوم عليها دولة إسرائيل -وهي تمسّ برأينا- فإنّه بالإمكان القول بأقلّ تقدير إنّ هذه التعديلات يجب ألّا تكون سارية المفعول إلّا مع التئام الكنيست القادم.
سنورد هنا بعض التفاصيل السّريعة: تحظى مسألة التقييدات السّارية على صلاحية تغيير قوانين أساسيّة ببُعديْن مركزييْن. الأوّل هو مضمون التغيير المقترح: هل يناقض هذا التغيير جوهر القيم الأساسيّة التي تقوم عليها دولة إسرائيل كدولة يهوديّة وديمقراطيّة، كما وردت في وثيقة الاستقلال. ترجمة ذلك من الناحية القانونيّة أنّ هذا المسار يتفحّص ما إذا كان التعديل الدستوريّ دستوريًّا بحدّ ذاته. هذا ما تتطرّق إليه ورقة الموقف رقم 9 الصادرة عن المنتدى. أمّا البُعد الثاني فيتناول سؤاليْن اثنيْن: الأوّل، هل تقوم الكنيست بتشريع قانون أساسيّ يخصّ مسائل لا تلائم القوانين الأساسيّة، بل هي جديرة بتشريع عاديّ وحتّى بتشريعات ثانويّة؟ والثاني، هل يحقّ للكنيست إجراء تعديل على قانون أساس يُغيّر قواعد اللعبة، ويكون ساري المفعول بشكل فوريّ؟ أو أنّ على هذا التعديل ألّا يكون ساريًا قبل التئام الكنيست القادم، وذلك للحؤول دون نشوء وضعيّة يكون فيها الكنيست الذي أدخل هذه التعديلات هو الكنيست الأوّل الذي سيتصرّف وفق قواعد اللعبة الجديدة؟ هذان السؤالان يُطرحان تحت غطاء مسار يُسمّى "سوء استخدام الصلاحية التأسيسيّة". ووفقًا لهذا المسار، ثمّة احتمال بأن يستخدم الكنيست صلاحيته لتشريع قوانين أساسيّة بشكل غير سويّ.
ينطلق هذا النقاش من أنّ أحد الأمور الأساسيّة التي تسعى لتحقيقها أيّ تسوية دستوريّة يهدف لمنع نشوء وضعيّة تقوم من خلالها أغلبيّة عرضيّة أو وقتيّة، بتغيير قواعد اللعبة الأساسيّة، لتقوم من بعد تغييرها باستخدام قواعد اللعبة الجديدة من أجل السيطرة على المُركّبات الأساسيّة للمنظومة، أو بغية التمتّع بأفضليّة بنيويّة في أيّ مواجهة مستقبليّة مع الأقليّة. وعليه، فإنّ الإدراك الأساسيّ والجذريّ القائم في القانون الدستوريّ يقوم على مُرتكزيْن يُكمّلان بعضهما البعض: 1. التغيير الجوهريّ لقواعد اللعبة يُلزم بوجود توافق واسع بين مُركّبات البيت، وعدم الاكتفاء بالأغلبيّة الائتلافيّة. 2. تغيير قواعد اللعبة ذات الصّلة بعلاقات الأغلبيّة- الأقليّة أو بإلغاء القيود القائمة على قوّة الأغلبيّة، لا يسري إلّا مع الكنيست القادم. وبلغة قانونيّة: التغيير المذكور يكون نافذًا من خلال سريان مؤجّل، ابتداءً من الانتخابات القادمة.
تشير هذه الورقة إلى أنّ التغييرات التي يدفعها الائتلاف قدمًا في هذه الأيّام تشكّل حالة ساطعة من سوء استخدام لصلاحية تأسيسيّة. فهذه تعديلات تفضي إلى تغيير المركّبات الأساسيّة الكامنة في صُلب قواعد اللعبة، وهي مُركّبات الغاية منها تقييد قوّة الأغلبيّة. أمّا الآن، فإنّ الأغلبيّة في الكنيست تسعى حثيثةً من أجل رفع هذه القيود (من دون استبدالها بقيود أخرى)، وفورَ ذلك استخدام قوّتها المنفلتة من أجل تثبيت حقائق على الأرض لفترة طويلة. ثمّة طريقة أخرى لوصف ذلك، عبر التشديد على تضارب المصالح البُنيويّ القائم في التغييرات المقترحة: الأغلبيّة تنوي استخدام قوّتها بغية تعديل قوانين أساسيّة، التي من المفترض بها أن تُقيّد الأغلبيّة في سعيها لتشريع قوانين عاديّة، أو في نيّتها استخدام صلاحيّات نابعة من سريان هذه القوانين. وبلغة أكثر مألوفة: الأغلبيّة تواجه كوابحَ تسعى لمنع القطة من التهام الحليب بأكمله. فماذا يكون ردّ الأغلبيّة؟ أن تلجأ إلى استخدام قوّتها لإزالة هذه القيود من دون توافق واسع، لتُسرع هي نفسها لالتهام أكبر قدر من الحليب.
وكي نكون عينيّين أكثرَ، فلننظر إلى مسار اختيار وتعيين القضاة في إسرائيل القائم على توافق جرى تحصيله عام 1953، والذي يقضي بعدم تمتّع الأغلبيّة الائتلافيّة بالسيّطرة الأوتوماتيكيّة على لجنة تعيين القضاة. يستند هذا التوافق إلى الإدراك الأساسيّ بأنّ تمتُّع الأغلبيّة بمثل هذه السّيطرة سيُمكّنها من تعيين القضاة كما يحلو لها، وسيكونون قضاةً من معسكر الأغلبيّة بحيث لا يشكّلون أيّ عائق أمامها. وسيكون ذلك خلافًا للمهام الأساسيّة المَنوطة بالقضاة: التأكّد من أنّ نظام الحكم يخضع لمُتطلبات القانون وللمبادئ الأساسيّة، ولا يمسّ بحقوق الإنسان أكثر ممّا يلزم. وعلى هذه الشاكلة، فإنّ الأغلبيّة اليوم تقترح البتّ في أنّ أيّ قانون أساس سيكون مَعفيًّا من الرقابة القضائيّة أيًّا كانت. ويأتي هذا من دون تحديد أيّ تقييد على مجمل المسائل التي من الجدير أن تُدرج في القوانين الأساسيّة، ومن دون تحديد أيّ متطلّبات لمسار خاص بتشريع القوانين الأساسيّة، وكلّ ذلك من خلال إبقاء هذا الموضوع مُشرّعًا أمام قرارات الأغلبيّة. هذا يعني أنّ بوسع الأغلبيّة الائتلافيّة بعد إزاحة القيود القائمة على تشريع القوانين الأساسيّة (كما بُلورت في قرارات الحُكم)، أن تقوم بتشريع قوانين أساسيّة كما يحلو لها، ما يُفضي إلى تجاوز أيّ قيد ممكن. وهنا أيضًا يُعفي القط نفسه من أي قيد أو شرط، وسيكون قادرًا وبسهولة على التهام الحليب -تشريع أيّ قانون أساس يرغب به- بما يمكن أن يؤثر على العلاقات القائمة بين الأغلبيّة والأقليّة بشكل بَيِّن. ووفقًا لإرادة الأغلبيّة ستكون المحكمة عاجزة عن ممارسة أيّ نوع من الرقابة القضائيّة. يهمّنا هنا التشديد على ما جرى العمل به في دولة إسرائيل في السّابق، وهو أنّ سنّ وتشريع القوانين الأساسيّة -وخصوصًا القوانين الأساسيّة التي تتطرّق إلى التدابير النظاميّة- يجري من خلال توافق أجزاء البيت، من دون الاستناد إلى الأغلبيّة الائتلافيّة فقط. أمّا الأغلبيّة الائتلافيّة الحاليّة فإنّها تنحو غير هذا المنحى، وذلك عبر مسار حثيث وسريع.
وترتبط هذه الأمور أيضًا بتغييريْن إضافييْن جرى طرحهما: تغيير مكانة المستشارين القضائيّين ومسارات تعيينهم، ومنح الأغلبيّة الائتلافيّة صلاحية سنّ قانون يناقض قانونًا أساسيًّا موجودًا عبر فقرة التغلّب (وبأغلبيّة 61 عضو كنيست فقط). المستشارون القضائيّون يشكّلون هم أيضًا جزءًا من جهاز الرقابة على قوّة الأغلبيّة، وتحويل تعيينهم إلى مسألة سياسيّة ومذكرات مواقفهم إلى مذكّرات غير مُلزمة، يعني في نهاية المطاف إزالة الحاجز القائم بين القطّ والحليب. زدْ على ذلك أنّ منح القوّة للأغلبيّة بغية التغلّب على قرار اعتبار قانونٍ ما قانونًا غير دستوريّ، أو منحها القوّة لتحصين قانون ما ضدّ الرقابة القضائيّة، يُحرّران الأغلبيّة من الخضوع لمنظومة توازن هامّة. وما دام الحديث لا يدور عن فقرة تغلّب عينيّة أو محدودة، بل عن فقرة تغلّب جارفة تسمح بالتحرّر من أيّ قيد قائم في ضمن التسويات الدستوريّة، فإنّ هذا الأمر يمنح القط منالية الوصول إلى الحليب بحريّة تامّة.